إن القاضي إياس هو واحد من أفضل ما أثمر الدين الإسلامي بهم، حيث كان قاضي للعدل في النفوس، فأظهر العدل في مختلف احكامها، فكان يعلم مختلف الأمور الخاصة بملابسات الحوادث، وكان يسهم في إعادة جميع الحقوق إلى أصحابها في وقت سريع، وكان من أهم النماذج التي يشهد بها التاريخ من أبناء الإسلام في كل مكان، كما كان يضرب به المثل في أن لديه حد كبير من الذكاء والفراسة.

حياته

كان إياس بن معاوية بن قرة بن الزمني قد ولد في العام السادس والأربعين من الهجرة للرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وكانت كنيته أبو وائلة، وتم وضعه في التابعين. كما أنه قد تعلم على أيدي معاوية الذي قام بتحفيظه للقرآن من خلال سن مبكر في حياته، كما كان يروي له العديد من الأحاديث النبوية، كما قد بعثه من أجل التعليم في أيام العجم وأخبارهم من خلال رجل من أهل الذمة، وكان هذا الرجل يشهد له بالجدارة والكفاءة في تلك الأمور.

وكان علامة منذ صغره فكان يقوم بالتقاء الدروس المختلفة في تاريخ العجم، حيث سمع يهودي يقول ما أحمق المسلمين، كما يزعمون أن أهل الجنة كما يأكلون ولا يحدثون فقال لهم إياس أفكل ما تأكله تحدثه؟ قال: لا، لأن الله تعالى يجعل بعضه غذاء: قال: فلم تنكر أن الأدلة التي تعالى يجعل كل ما يأكله من أهل الجنة كغذاء؟ فبهت الذين كفر! وهذا الأمر يدل على قدرته في الإمساك بالدليل، والمضي به إلى الاقناع ثم إعلان الحق.

كما أنه كان ملهم وصادق في الرؤية وقال في العام الذي توفى فيه حيث رأيت في المنام كأني وأبي على فرسين فجريا ولم أسبقه ولم يسبقني، وعاش أبي ستا وسبعين سنة وانا فيها، فلما كان آخر لياليه وقال أتدرون أي ليلة هذه؟ ليلة استكمل فيها عمر أبي ونام وصار ميتا، وكان هذا الأمر في عام 122 من الهجرة.

اياس والقضاء

كان الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه قد بعث إلى واليه بالبصرة، وذلك من خلال عدى أبن أرطاه المتوفى 102 هـ، فقال له أجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة الحرشي واعتقد أنهم اختبارا وول قضاء البصرة وأنفذهم أي اكفأهم وهو منهج الإسلام في التعيين على الولايات العامة المختلفة.

وكان قد دار بينه وبين الوالي حوار كما يلي: قال القاسم: إن إياساً بن معاوية أفقه مني وأعلم بالقضاء. فإن كنت كاذباً فما يحل لك أن توليني وأنا كاذب، وإن كنت صادقاً، فينبغي لك أن تقبل قولي. وحلف على ذلك. فرد إياس وقال للوالي: إنك جئت برجل أوقفته على شفير جهنم، فنجى نفسه منها بيمين يستغفر الله منها، وينجو مما يخاف.

فقال عدي: أما إذا فهمتها فأنت لها. فاستقضاه فأبى وقال إياس: بكير المري خير مني. فأمر عدي بن أرطاة بكيرا بذلك فقال بكير: إياس خير مني.

قالوا: إنه قد قال: انك خير منه.
فقال إياس: لو تعلموا من فضله إلا تفضيله إياي عليه، لكان ينبغي أن تعلموا أنه أفضل مني.
وفي هذا الوقت قد انتهى الأمر إلى فرض منصب القضاء على إياس فبكى من خلال الاستشعار بجسامة المسئولية وثقل الأمانة عليه، وبالتالي فكان قد يطلب الإعانة والتوفيق من الله تعالى.

طريقة تعامل إياس مع القضاء

كان إياس يعلم أن القضاء هو حالة من الفهم، وكان يشارك جميع أهل عصره في العلم الذي يختص عنهم من خلال فهم الواقع والاستدلالات المختلفة بالشواهد والإمارات، وقد أثنى عليه الإمام ابن القيم في الطرق الحكمية التي يقوم باتباعها، وقال هذا الذي فات كثيرا من الحكام وكانوا يضيعوا الكثير من الحقوق، كما أنه استدل على أن القضاء من خلال قوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا) “سورة الأنبياء، الآية 78- 79”

وكان هناك رجل قد سأل إياس بن معاوية ان يقوم بتعليمه القضاء، ولكنه قال له أن القضاء لا يعلم، وانما هو حالة من الفهم، وقال له علمني العلم، حيث كان إياس رحمه الله قد أصابه من العلم كميات كبيرة، ولكن الفهم كان مقدرة له من الله تعالى، وكانت تلك النقطة هي الفاصلة بينه وبين مختلف القضاء، فاستطاع أن يميز بين أحوال الناس، كما أستطاع أن يميز بين الصادق والكاذب، واستطاع أن يميز بين المبطل والمحق؟

كما أنه كان يهتم بعملية تحميص الشاهد وشهادته، وعندما يقتنع بها ويطمئن بها ويقتل أنها من الحقيقة يقوم بطرحها، وبالتالي فكان لا يتأثر بأي من الشائعات والأقوال التي تدور بين الناس في مختلف القضايا، ولم يكن يهتم بما يثار بين الناس، وتعد تلك النقطة أيضا من الأمور الهامة لجميع القضاء في كل العصور.