قد تبدو كلمة الهندرة غريبة على أسماع الكثير منا ولا غرابة في ذلك فهي كلمة عربية جديدة مركبة من كلمتي هندسة وإدارة وهي تمثل الترجمة العربية لكلمتي (Business Reengineering)،وقد ظهرت الهندرة في بداية التسعينات وبالتحديد في عام 1992م ، عندما أطلق الكاتبان الأمريكيان مايكل هامر وجيمس شامبي الهندرة كعنوان لكتابهما الشهير (هندرة المنظمات ) ومنذ ذلك الحين أحدثت الهندرة ثورة حقيقية في عالم الإدارة الحديث بما تحمله من أفكار غير تقليدية ودعوة صريحة الى إعادة النظر وبشكل جذري في كافة الأنشطة والإجراءات والإستراتيجيات التي قامت عليها الكثير من المنظمات والشركات العاملة في عالمنا اليوم.

لقد اعتاد الكثير منا على الذهاب الى عملة يوميا وممارسة المهام والمسؤوليات المناطة به سواء كانت على شكل خدمات للجمهور أو أعمال إدارية وتشغيلية وغير ذلك،ولكن هل حصل إن توقف الواحد منا لفترات محدودة وسأل نفسه لماذا أقوم بهذا العمل ؟ وما فائدة هذا العمل للعميل أو المستفيد الأخير من الخدمة أو العمل ؟ هل ما أقوم به ذو قيمة مضافة تساعد في تحقيق رسالة وأهداف المؤسسة التي أعمل بها ؟ وإذا كانت الإجابات بنعم فتابع الأسئلة وأسأل هل هناك طريقة أفضل لتقديم هذه الخدمة أو القيام بهذا العمل ؟.

إن هذه الأسئلة على بساطتها في غاية الأهمية وهي القاعدة الأساسية التي ينطلق منها مفهوم الهندرة والتي تسعى الى إحداث تغييرات جذرية في أساليب وطرق العمل بالمنظمات لتتناسب مع إيقاع ومتطلبات هذا العصر،عصر السرعة والثورة التكنولوجية.

ولعل من المناسب أن نورد هنا قصة طريفة وواقعية حصلت في أحد الشركات المحلية وتتدل على أهمية المراجعة الدورية وضرورة التفكير فيما نقوم به من أعمال رتيبة،وقد بدأت القصة عندما قام أحد المستشارين بالشركة بمراجعة أنشطة ومهام أحد الأقسام بالشركة حيث يقوم العاملون في هذا القسم بتسجيل كافة البيانات المتعلقة بقطع الغيار المستوردة في دفاتر للتسجيل يتم حفظها بصفة دورية رتيبة ، وعند سؤال العاملين لماذا يقومون بهذا التسجيل ؟ كانت الإجابة التقليدية بعد قليلا من الحيرة والذهول إنه طلب منا القيام بهذا العمل منذ التحاقنا بهذا القسم وعليك سؤال المشرف فهو أدرى بالسبب . وكانت المفاجأة تكرار الحيرة والذهول لدى

مشرف القسم ، وبالتحري والإستقصاء لمعرفة جذور هذا العمل إتضح أن هذه الشركة قد ورثت نظامها الإداري من قبل شركة أجنبية ينص النظام في بلدها أن يتم التسجيل بهذه

الصورة ليتم مراجعة وفحص هذه السجلات بصفة دورية من قبل موظفي مصلحة الضرائب بتلك البلد ، بينما نحن في بلد ليس به ضرائب ، أو محصلي ضرائب ولكم أن تتخيلوا مدى الهدر في الوقت والجهد والقوى البشرية الذي نجم عن هذه الممارسة الروتينية والتقليدية للأعمال والمسؤوليات دون مراجعة أو إعادة تفكير ، وهو ما تسعى الهندرة الى تحقيقه ليقوم العاملين بأداء الأعمال الصحيحة والمفيدة وبالطريقة الصحيحة التي يريدها العميل ويتطلع اليها .

كما يجدر بنا ونحن بصدد الحديث عن الهندرة أن نتطرق الى أحد قواعد الفكر الإبداعي وهي قاعدة الخروج من الصندوق (Out Box)والتي تنادي العاملين الى الإبداع في أعمالهم والتخلص من قيود التكرارية والرتابة والنظر الى الأمور المحيطة بأعمالهم بنظرة شمولية تساعد على تفجير الطاقات الإبداعية الكامنة في كل فرد منا.


إن رياح التغيير التي تجتاح عالم الأعمال اليوم هي الدافع والمحرك الحقيقي لمشاريع الهندرة في العالم أجمع ، وقد أظهرت نتائج مسح عالمي شمل عدد كبير من التنفيذيين في الشركات العالمية تم خلال التسعينات أن الهندرة كانت على رأس قائمة الجهود التي بذلتها الشركات والمنظمات المختلفة لمواجهة المتغيرات التي تجتاح السوق العالمية ، ويكفي أن نعرف أن مجموع ما صرفته الشركات الأمريكية فقط لمشاريع الهندرة خلال هذا العقد قد تجاوز الخمسين مليار دولار أمريكي ، وهو استثمار كبير قامت به الشركات لقناعتها بأن العائد على هذا الإستثمار سيكون أكبر بكثير وهو ما تحقق فعلا لكثير من الشركات . ولا عجب أن قيل أن التغيير ثابت وهي جملة صحيحة وصادقة بكلمتين متناقضتين فالتغيير شمل كل جوانب الحياة العملية إبتداء من العميل ومرورا بالمنافسين وإنتهاء ببيئة العمل المحيطة بنا ، ففي ما يخص العميل أو الزبون كما يسميه البعض لا يختلف اثنان أن عميل اليوم ليس عميل الأمس ، فعميل اليوم كثير المطالب واسع الإطلاع ، صعب الإرضاء ، سهل الفقدان ، إرجاعه والإحتفاظ به مكلف وما هذا إلا نتيجة طبيعية للثورة التكنولوجية والمعلوماتية التي زادت من ثقافة العميل بالمنتجات والخدمات من حوله كما أن المنافسة الشديدة في أسواق اليوم جعلت الحاجة في التغيير المستمر ضرورية ولازمة من أجل البقاء والإستمرار .

اما رياح التغيير التي تجتاح بيئة وأسواق العمل محليا ودوليا فحدث ولا حرج ، فالعولمة وإتفاقيات التجارة الحرة والتوجه الى الخصخصة وحرب الأسعار وقصر عمر المنتج والخدمات في الأسواق نتيجة التطوير والإبتكار المستمر يجعل الطريق صعبا أمام الشركات التقليدية والرافضة للتغيير نحو الأفضل. وهنا تبرز أهمية الهندرة كأحد الأساليب الإدارية والهندسية الحديثة التي تساعد الشركات على مواجهة هذه المتغيرات وتلبية رغبات وتطلعات عملائها في عصر لا مكان فيه للشركات والمنظمات القابعة في ظل الروتين والبيروقراطية الإدارية مع النظر الى العملاء من برج عاجي مكدس بالأوراق والمعاملات والإجراءات المطولة التي أكل الدهر على بعضها وشرب.

ونختتم الحلقة الأولى من سلسة هذه المقالات حول الهندرة بالتطرق الى تعريف الهندرة والتعرف على عناصرها الأساسية ، ولعل أشهر وأبسط تعاريف الهندرة هو التعريف الذي أورده مؤسس الهندرة مايكل هامر وجيمس شامبي في كتابهما الشهير (هندرة المنظمات) والذي ينص على النحو التالي (الهندرة هي إعادة التفكير بصورة أساسية وإعادة التصميم الجذري للعمليات الرئيسية بالمنظمات لتحقيق نتائج تحسين هائلة في مقاييس الأداء العصرية : الخدمة والجودة والتكلفة وسرعة إنجاز العمل ).

ولتبسيط هذا التعريف فإنه يمكن ملاحظة إشتماله على أربعة عناصر أساسية وهي :
1. إعادة التفكير بصورة أساسية(Fundamental Rethinking) وقد تطرقنا الى هذا الأمر.
2. إعادة التصميم بصورة جذرية : فالهندرة تسعى الى حلول جذرية لمشاكل العمل لا حلول سطحية ومؤقتة.
3. نتائج تحسين هائلة : فالهندرة تسعى الى نتائج هائلة من التحسين في مقاييس الأداء المختلفة ولا تكتفي بالتحسين الطفيف للأداء.
4. العمليات الرئيسية(Processes) : وتتميز الهندرة بتركيزها على العمليات وليس الإدارات أو المهام فقط،فالعمليات أشمل وأكبر وتغطي سلسة الإجراءات المتعلقة بالعمل إبتداء من طلب العميل وإنتهاء بتقديم الخدمة المطلوبة مرورا بكافة الأقسام والإدارات ذات العلاقة بما يحقق الصورة الكبيرة والشاملة لأعمال المنظمات .