اكتسب الباب والبوابة رمزية استثنائية، وأحيط في أعرافنا الشعبية بهالة من الروحانيات والهواجس وعالم الظنون، وتراكب معناه وتداخل مع "باب الله "و"باب الرزق" و"باب الفرج" و"باب الحوائج"، وقيل عنه في الأمثال (الأبواب لها آذان) لما يوحي بالتوجس والشك واستراق السمع ونقل الأسرار، وحصر حرم الصلاة في المساجد (بين الباب والمحراب)، وأصبح الباب يكتنف خلفه صندوق أسرار البيوت، ويكتم خباياها، وربما يكون هذا مبررا كافيا وراء تصويره في لوحات المستشرقين بموقع جوهري، لكونه كاتم سر الشرق الغامض.

وتداولت الألسن أهمية عتبته وما يتعلق بها من ضروب الحظ والطالع والغيب، و نجد النسوة يليّسن أبواب قبور أضرحة المقدسين والصالحين من البشر بالحناء، تجسيدا لتبجيل وعرفانا بقدسية، ويتعدى الباب كونه جمادا غير عابئ بالذاهبين والآيبين إلى روح يقول فيها شاكر لعيبي (ليس الباب في الأصل من الحجر أو الخشب ولكنه من الروح).

ونرصد لكلمة "باب" تسميات لمواقع ومدن كباب المندب وباب الهوى وأشهرها قاطبة مدينة بابل الواردة من مركب (باب إيل) الأكدية بما يعني (باب الله)، ووردت في تسميات أحياء المدن المتاخمة في العادة لبواباتها، كما في أحياء بغداد (الباب الشرقي) و (باب الشيخ) القريب من ضريح الصوفي الجليل عبدالقادر الكيلاني، و(باب المعظم) المؤدي لضريح الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان، وكذلك الحال في تسمية حي (باب المردوم) المتاخم لإحدى مداخل مدينة طليطلة، والمشهور بمسجده المبني عام 999م، وحي (باب الجياد) في مدينة تلمسان الجزائرية وحي (باب الواد) المشهور على تخوم قصبة مدينة الجزائر، أما كلمة (باب) فهي واردة من أصول قديمة في اللغات المورثة للعربية (السامية).

و لهيئة الباب وشكله وموقعه و حجمه تداخل جوهري مع ممارسات الزهد المعماري، الذي ورد صنوا للخطاب الأخلاقي الشامل للإسلام قبل أن يحرف تباعا من الخلفاء والسلاطين والولاة. واقترن الباب برمزية أخلاقية بما يمثل الحاجب والعازل بين الحاكم والمحكوم، و خير الأمثلة على ذلك ترد في سيرة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رض) خلال الرسالة التي بعثها إلى سعد بن أبي وقاص في الكوفة، آمرا موفديه بحرق باب قصر الإمارة ليجعل منه رمزا لانفتاح الصلة بين الحاكم والمحكوم وعدم وجود الحواجب "البابية" بينهما، وورد في نص رسالته: (بلغني انك بنيت قصرا اتخذته حصنا ويسمى قصر سعد وجعلت بينك وبين الناس "بابا" فليس بقصرك ولكنه قصر الخبال، انزل منه منزلا مما يلي بيوت الأموال و أغلقه ولا تجعل على القصر بابا يمنع الناس من دخوله ).

عمارة البيبان
و الباب حالة متعددة الورود، تتجسد بنقطة الولوج إلى البناء أو الحجرات. أما "البوابة" فتطلق على أبواب المشيدات الهامة التي تتميز بضخامة بنائها، وفخامة زخارفها واتساع رقعتها، كمداخل المدن و الأسوار والمساجد الجامعة، والمدارس، ودور الصوفية (الخوانق ، والتكايا ، والزوايا ) والبيمارستانات ، والقصور ، والقلاع ،والخانات ، والأضرحة .

و تعود سنة عمارة "بوابات" المدن إلى قيام المدن الأولى (النامات) في الرافدين العتيق، عندما اقتضى تسويرها. و يقول (اوبينهيم) بهذا الصدد: (لم تكن أسوار المدن في الشرق الأوسط القديم مجرد خط فاصل بين المدينة والأرجاء المكشوفة، أو خط معد سلفا للدفاع، فقد كانت تحدد الطابع المعماري للمدينة. حيث ارتفاع الأسوار وطولها وموضعها تشهد على أهمية المدينة وجبروتها، وكانت ضخامة البوابات تبين غناها. وكان تصميم البوابات الضخم مرتبطا كذلك بوجود ما يشبه(مركزا مدنيا) قربها فهناك، كانت تنعقد الاجتماعات وتتخذ القرارات، ربما في ساحة متاخمة للبوابة من داخل المدينة، وكان حاكم المدينة يدير المدينة أو على الأقل جزءها المتاخم للبوابة). ومازال هذا التقليد يرد حتى يومنا هذا في بعض المدن العربية والإسلامية مثل مدائن المغرب العربي حينما تقوم الأسواق والمواسم على تخوم بوابات المدن.

وحدث خلط جوهري في أصول البوابات الواردة في صروح العمارة الإسلامية، فأقر الغربيون وكرر الشرقيون لاحقا بأنها جاءت من مصادر رومانية ومقتفية لأثر (أقواس النصر Triunph arch)، متنكرين في ذلك للإرث الغني للعمائر التي سبقت روما واليونان بآلاف السنين، و تناسوا نموذج بوابة عشتار الجميلة في بابل (مبنية بحدود 575 ق.م)، التي سبقت بمئات السنين أقدم بوابة نصر.

وقد حدث أن انتزع الألمان البوابة من بابل آجرا آجرا، وتم تركيبها في متحف (Staatliche Museen) في مدينة برلين القابعة بها حتى اليوم. و يعتقد الباحثون أن آجرها تعرض لحرارة قدرها 1000 درجة مئوية، و غشيت بالآجر المطلي بالمينا، و استعملت ألوان غلب عليها الأزرق والأصفر. ويعتبر ذلك من بواكير المعالجات التزويقية للمداخل.

وفي سياق ذكر الأبواب المنقولة نجد بوابة مدينة نينوى ترزح في إحدى قاعات المتحف البريطاني في لندن ، وهو عبارة عن باب خشبي سامق الارتفاع غشي بطبقة من معدن البرونز ،الذي تآكل جزء منه ،وقد عولجت الطبقة المعدنية بـ"موتيفات" من فنون النحت البارز الخاص بالفن الآشوري ،بحيث يمكن أن يشكل هذا الأثر أقدم الأمثلة الباقية على تقليد تغشية البيبان الخشبية بالمعدن ،و الذي شاع بعد ذلك،ولاسيما في الفنون الإسلامية. ومن التراث المعماري نجد أجمل أمثلة من البوابات متجسدة في بوابات مدينة الحضر الواقعة في بادية العراق الشمالية، ولاسيما في مدخل معبد (شحيرو).

وفي سياق غنائم البيبان في التاريخ السابق للإسلام نذكر ما جاء في أخبار الملك الفارسي (داريوس) عندما احتل مدينة بابل عام 539 ق.م ،ونقل أبوابها النحاسية . و في عهود الإسلام حدث بأن بيبان بغداد المنصورية المصنوعة من النحاس الجيد كان قد جلبها أبو جعفر من مدينة واسط وعددها خمسة استعمل أربعة منها لمدخل المدينة والخامسة لقصره (القبة الخضراء)في وسطها.

و تذكر الأساطير بأن تلك البيبان كان قد وضعها سليمان ابن داود، عندما أمر الجن بصناعتها من المعدن، بما لا يستطيع عليه بني البشر، وأرادها لمدينة أسسها يطلقون عليها (أزندوار) تقع قرب موقع واسط، وقد سلبها الحجاج الثقفي من أطلال تلك المدينة ونقلها إلى مدينته. ثم نقلت تلك الأبواب بعد قرنين إلى قصر معز الدولة البويهي عندما بنى قصره في الشماسية (الأعظمية اليوم)، ثم انقطعت أخبارها بعد خراب البويهيين وقصرهم.

وحدث الأمر عينه إبان الدولة المملوكية عندما صادر محمد بن قلاوون بعض أبواب الشام لينقلها إلى مدرسته التي شملت ضريحه، أو بوابة مدرسة السلطان حسن النحاسية الرائعة(1356م) وقد وجدت على مدخل مسجد المؤيد في القاهرة المبني بين أعوام (1415- 21م). ويقع هذا الجامع اليوم في شارع المعز لدين الله، وبابه هذا يقع في الطرف الشمالي للبناء، وهو من الخشب المصفح بالنحاس والمكفت بالذهب والفضة، ومن الطريف أن هذا الباب أبى إلا أن يحتفظ بنقش يذكر بصاحبه الأصلي السلطان حسن.

الباب والبوابة
ويعتبر الباب والبوابة جزء من المنظومة المعمارية، ودالة للجانب الهيكلي والجمالي وكعنصرا وظيفيا يشكل صماما بين فضائين معماريين، وكحد فاصل بين حرمة وخصوصية الداخل من جانب، ومشاع وعمومية الخارج من جانب أخر,ويتعدى ذلك إلى الوظيفية المناخية كون جانبيه يشكلان حدود التدفق الحراري في المبنى(fluxion ).

و اقترن اختيار موضع البوابة بخصوصية تخطيطية، كان للمحورية فيها غلبة وسطوة، ولاسيما في المخططات الكبرى، ويرسم البابين المتتابعين المسلك الذي يربط نقطتين أو موقعين أو قطبين من الفضاءات المعمارية عموما، وجاءت بوابات المدن متحاورة على العموم. و اكتسبت وظيفة من خلال وجودها في اتجاهات القوافل نحو الأمصار كما في بغداد المدورة بنيت عام ( 145هـ -762م) حيث سميت بأسماء خراسان والشام والكوفة والبصرة. وورد أن مدينة بغداد قد سميت بالزوراء، بسبب الازورار في حركة السير لتخطيط بواباتها، كما يذهب إليه بعض المؤرخين.

لقد عولجت الأبواب الدفاعية عموما بشكل استثنائي، لتكريس الحماية للمدن، وفي شمال أفريقيا نجد أقدمها في رباطي سوسة والمنستير في تونس المبنية إبان الحقبة الأغلبية في أواسط القرن التاسع الميلادي ،حيث زودت بـ(سقاطة) وهي فتحة تقع أعلى البوابة بغرض صب الزيت المغلي على الأعداء. والحال نفسه ينطبق على مداخل مدينة القاهرة الفاطمية (زويلة ) و(الفتوح)، التي ترجع تصميمه إلى المعمار ( يوحنا الراهب) الأرمني الأصل والمصري الإقامة ، و ذكر منظر العمارة ماير Mayer في كتابه (العمارة الإسلامية وحرفها ) بأنه أحد ثلاث ممن أشرفوا على عمارة الأبواب الثلاث للقاهرة الفاطمية في وقت الوزير الأرمني الأصل بدر الجمالي وهم باب الفتوح(480هـ-1087م) وباب النصر(480هـ-1087م) بالحائط الشمالي وباب زويلة (485هـ –1092م) في السور الجنوبي من القاهرة التي بناها جوهر الصقلي عام (358هـ-969م).

ويظهر في تصميم الأبواب الثلاثة اقتباسات من عمارة آسيا الصغرى التي تعتبر جذورها شامية وآشورية وحيثية ثم بيزنطية ومن فروعها العمارة الأرمنية. وتشترك هذه المدرسة باستعمالها مداميك الحجارة الكبيرة المنحوتة والمهندمة. وقد استعمل المعمار الأعمدة الحجرية داخل الأسوار للتقوية والربط. وقد كانت قد استعملت هذه الطريقة كذلك في العمارة الرومانية. وقد استقدمت إلى تلك البوابات بعض الحجارة من المعابد الفرعونية.

وهنا نلاحظ الاختلاف في تصميم كل من باب زويلة والفتوح عن باب النصر، ففي باب النصر نجد البرجين مربعين بينما في الأمثلة الأخرى نجد الأبراج مستديرة.كذلك استعمل القبو المتقاطع في تغطية باب النصر بينما استعملت القباب الكروية المحمولة على مثلثات في الأركان في الأبواب الأخرى - وهو أول مثال يطبق في مصر-.وقد زين باب النصر برسومات للآلات الحربية. وفي باب الفتوح استعملت كوابيل حجرية على هيئة رأس الكبش.

وقد جهزت الأبواب والأسوار بفتحات وأبراج للحراسة. ومن الجدير ذكره أن كثير من البوابات ورد أسمها في كتب التراث ولاسيما في قلعة صلاح الدين، ولم يعد لها وجود مثل باب الدرفيل.. وباب القلة.. وباب النحاس.. وباب سارية.. وباب المدرج.. وباب القرافة.. وباب السلسلة.. وباب الجبل.. وباب العزب. وقد زالت بعض تلك الأبواب ولم يعد لها أثر، كما بقيت أبواب أخرى مازالت شاهدة على مدى قوة تحصينات القلعة طبقا للمفاهيم الحربية خلال تلك العصور الإسلامية. و تعتبر تلك البوابات مع بوابات مدن الرباط ومراكش وفاس والباب الوسطاني في بغداد من أجمل الآثار الإسلامية.