العمارة.. هي أداة الإنسان التي تعبر عن المجتمعات في العالم المحسوس. ومن ثم فإن النسيج العمراني يعد بمثابة مرآة فيزيائية لكل ما هو غير فيزيائي.. بما في ذلك الأوجه والأبعاد الأيديولوجية التي تحدد الواقع الموضوعي لذلك المجتمع في الماضي والحاضر والمستقبل!

حول هذا الموضوع الهام يقدم لنا الدكتور إسماعيل سراج الدين كتابه الجديد «العمارة والمجتمع». يتحدث المؤلف في الفصل الأول عن الروابط الرئيسية بين العمارة والمجتمع مؤكدا أنه ليس هناك شكل فني أكثر ارتباطا بمجتمع بعينه كشكل تعبيراته.. فهو يعكس تطلعات ذلك المجتمع وحساسيته الفنية ورخاءه الاقتصادي ومستوى تقدمه التكنولوجي وعناصر المناخ والطبوغرافيا وبنية المنظومة الاجتماعية.

إن عمارة أي شعب لا تعبر فقط عن كل هذا بشكل ملموس من خلال كونها نتيجة وخلاصة كل التناقضات التي يجسدها ذلك المجتمع. وإنما أيضا تساعد في صياغة رؤياه.. إنها بذات الوقت مرآة لنشاطات ذلك المجتمع وأداة مهمة لصياغة هويته.

وهذا لا يوضح إلى أي درجة تتحمل مهنة العمارة المسئولية عن صياغة وتشكيل الذائقة.. وإلى أي درجة تكون مجرد ناقل وموصل ؟! إننا لا نستطيع أن ننكر حقيقة سيطرة ذائقة النخبة الحاكمة على نمط المباني التي تعطي لمنطقة ما ملامحها الرئيسية التي تميزها والتي تعد معالم بارزة تجسد ما تريده النخبة المسيطرة. ولذلك أنتجت ايطاليا الفاشية وألمانيا النازية وروسيا السوفييتية أنماطاً من العمارة قابلة للتمييز والتوصيف بسهولة. وكذلك فعلت المنشآت الفريدة لمجتمعات أقل رسمية وشكلانية كالتي نجدها في أجزاء مختلفة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

ولا يعني ذلك أن التعبير الفني مقيد تماما بالواقع الاجتماعي.. فالفنانون (معماريون أو رسامون أو نحاتون) يلعبون وبما لا يدع مجالا للشك دورا في تحديد وإظهار وتحسين رؤية المجتمع لنفسه ورؤيته بواقعه الجمالي.


ولكن المعماريين مقيدون أكثر من غيرهم من الفنانين، إذ أن عليهم مواجهة الزبائن والتمويل.. وعليهم التعامل مع ضرورة أن تكون إبداعاتهم قادرة على الأداء الوظيفي السليم، وأن تخضع لمجموعة قاسية من الضوابط والقيود الصارمة.. عليهم التفاعل مع المجتمع باعتبارهم يمثلون أكثر الفنون المرتبطة به اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا ودينيا.

وفي الفصل الثاني يثير المؤلف قضية الحداثة في العمارة الإسلامية موضحا أن هناك من يناصر التعلق الرومانسي بأشكال وأبنية الماضي ليس كأمثلة وشواهد على حقبة تاريخية معينة.. وإنما كتجسيد حقيقي وحيد للتراث. وهؤلاء المناصرون هم عادة نفس الأفراد الذين يعتبرون عناصرا بعينها من المفردات المعمارية الموروثة والمترسخة: كالأقواس والقباب والقبوات.. وضرورة جوهرية وأساسية لتحقيق الأصالة أو التأصيل.

ولاشك أن إعادة صياغة المفردات المعمارية الموروثة تضيف بعدا مهماً في إنتاج تكوينات معمارية متأصلة ثقافيا.. ولكن يجب علينا أن نحذر من السقوط في مهاوي المحاولات الرخيصة المبتذلة نحو «أسلمة» العمارة الغربية !!.. وذلك بالاعتماد على ملامح سطحية كبديل رخيص وسهل عن جهد حقيقي يسعى للتفاعل مع المحيط ومع تاريخه وإرثه الثقافي ومشاكله المعاصرة من خلال استخدام أقصى إمكانات المواد والتقنيات الحديثة.

وفي الفصل الثالث يستعرض المؤلف تاريخ جائزة الاغاخان للعمارة.. تلك الجائزة التي أنشأها الأمير كريم أغاخان عام 1977 لتشجيع المفاهيم المعمارية التي تنجح في مواجهة احتياجات المجتمعات الإسلامية وتطلعات هذه المجتمعات.

ويشير المؤلف إلى أن الجائزة اكتسبت الاحترام والتقدير منذ إعلان جوائز دورتها الأولى.. وذلك نتيجة الجدية التي اتبعها القائمون عليها والتي انبثق عنها معايير جديدة لتقييم المنشآت المعمارية، وقد يتوقع البعض أن تكون الضخامة والفخامة هي معايير الفوز الأساسية..

ولكن منذ إعلان الفائزين في الدورة الأولى قلبت الجائزة كل المعايير بل أثارت في بعض الأحيان الدهشة والحيرة والتساؤل لدى الجميع، إذ كرمت أعمال ذات طابع اجتماعي في العشوائيات في أندونيسيا، وأبراج مياه في الكويت، وغير ذلك من الأعمال التي أجبرت المعماريين في العالم أجمع أن يفكروا تفكيرا عميقا في معنى الإنجاز المعماري وعلاقة العمارة بالمجتمع. وبمرور السنين وتوالي الجوائز أضحى العديدون ينتظرون كل ثلاث سنوات إعلان الفائزين بالجائزة لبحث أسباب الفوز ودراستها وأخذها في الاعتبار عند التقدم لها، أو عند قيامهم بمشروعات جديدة.

إن النجاح الحقيقي لهذه الجائزة يتمثل في الاهتمام الذي بعثته نحو اتجاهات معمارية جديدة، سواء في المناطق الإسلامية.. أو في باقي أنحاء العالم.. حتى أضحت هذه الجائزة من أهم الجوائز المعمارية الدولية.

وفي الفصل الرابع يناقش المؤلف مفهوم النقد المعماري مبينا أن كل عمل معماري عبارة عن فعل متعمد لتغيير البيئة، وهكذا فإن أي بناء له مضمون مادي يمكن من خلاله رؤية البناء، وكذلك فهمه وتقويمه، وبالتالي يمكن تطوير مجموعة من المعايير تأخذ في الاعتبار خصائص المكان الطبوغرافية والمناخ والمواد والإنشاء والنسب البيئية المادية المحيطة سواء الطبيعة أو التي هي من صنع الإنسان، وذلك من أجل تقويم النوعية المعمارية للبناء والتي تفوق مجرد توفير حل للاحتياجات الوظيفية لمشكلة معينة.

إلا أن النقد المعماري قد ذهب إلى مستوى من الفهم أبعد من ذلك أخذا في الاعتبار مكانة المبني بالنسبة للتراث الاجتماعي الشامل للتعبيرات الفنية والجمالية، إذ ينظر النقاد إلى قدرة البناء على أن يعكس أصداء الماضي، ومن ثم يبرز الجوانب التي تحافظ على المعنى الإجمالي للهوية الثقافية للمجتمع وسط الصراع الحضاري العنيف والتحولات الاجتماعية والاقتصادية السريعة.

إضافة إلى ذلك ووسط هذا العالم الذي تتقلص مسافاته بسرعة فإن وسائل الاتصال قد جعلتنا تحت تأثير تيارات الفكر والإدراك والسلوك العالمية.. وأصبح الفعل المعماري الخلاق يقيم من خلال موقعه بين هذه التيارات.. بجانب إسهاماته في تطويرها.. لقد أصبح السياق العالمي.. شأنه شأن السياق القومي أو المحلي.. عنصرا في التقييم.

وهناك حالات بارزة في مثل هذا التفاعل مع التيارات العالمية. منها السلبي والإيجابي، فمن أعمال المعماريين الغربيين المؤثرة في العالم الإسلامي.. نجد «لويس كاهن» وتأثيره على عمارة بنجلاديش، والمعماري «بنشافت» في المملكة العربية السعودية، ومما لاشك فيه أن تأثير الفكر العربي والعمارة الغربية كبير جدا، بينما لا توجد أمثلة مماثلة لتأثير المعماريين المعاصرين من العالم الإسلامي على العالم الغربي إلا ما ندر.. مثل ما نجد في أفكار «حسن فتحي» التي نوقشت في مدارس العمارة الغربية أو كتابات «رفعت الجادرجي» المقروءة في مجالات الفكر المعماري الغربي.

الكتاب: العمارة والمجتمع
تأليف: د. اسماعيل سراج الدين
الناشر: دار الجمهورية للصحافة ـ القاهرة 2002