لا يمكن أن تمر بانعطافات المدينة العربية والإسلامية عمومًا دون أن يلفك عبق الماضي، ودون أن تشعر بوحدة تجمعها، أينما كان موقع هذه المدينة الجغرافي، فكلها تروي تاريخًا واحدًا تقريبًا هو تاريخ الفتح الإسلامي، كما أن المدينة الإسلامية تتميز بروحها وبانعكاس قيم أهلها وطبيعة تربتها بشكل واضح، إنها بطاقة هوية، وهندستها تعبر عن أخلاق الإسلام وقيمه الخالدة بشكل جلي، وكدليل على ذلك لا نجد الأصنام والهياكل في فناءات المدينة الإسلامية القديمة، وبالمقابل نجد اهتمامًا كبيرًا بالطبيعة وبالمساحات الخضراء، كما أن الدور يعتمد في بناء جدرانها على بعضها البعض كدليل على التماسك ومتانة علاقات الجوار.

وفي الوقت نفسه تميزت هذه الدور بارتفاع جدرانها تأكيدًا لحرمة فناءاتها، ومن خصائص المدينة الإسلامية كذلك أن الطابع الإنساني حاضر بقوة ليس فقط عندما يتعلق الأمر بالبيوت، بل يتعداه إلى هندسة الشوارع والأزقة، وهذا هو سر ذلك الشعور الذي ينتابنا عندما نكون بداخل إحدى المدن العريقة، وتلك الحميمية التي قد يشعر بها الزائر الذي يستطيع أن يتنسم عبق الماضي بين جدرانها التي لا تزال شامخة رغم مرور قرون طويلة على بنائها.

المدن العتيقة في المغرب
وإضافة إلى كل هذه الخصائص تتميز المدن الإسلامية في المغرب مثلا بروحها الأندلسية التي انطبعت في هندستها وفي عادات وتقاليد سكانها، هذه العادات والتقاليد التي تتحدث عن الزمن الماضي بلغة الحاضر دون أن يعلوها الصدأ أو تشتكي من الهرم، فالمدينة الإسلامية الأندلسية يتوسطها المسجد الذي يتصل عادة بباقي أجزاء المدينة بطرق تتفرع من أبوابه وتمتد في أجزاء المدينة ذات الاستعمالات المختلفة، وهذه الطرق تكون رفيعة ومخططة لمرور الناس والدواب، وبعضها مسقوف والبعض الآخر مكشوف.

وعلى جوانبها سبل السقاية والمساكن والمدارس والزوايا، كما أنها توفر الظل وتكون درجة حرارتها أقل من المحيط الخارجي بسبب جدرانها العالية وسقوفها، وتنتهي بعض الحارات السكنية إلى نهايات مسدودة لتوفير الشعور بالاستقلالية لكل حارة ولتوفير الشعور بالأمان لسكانها ليلا.

أما مواد البناء في المدن الأندلسية عادة فهي الحجر والطين والجير. والأسواق لا تخترق المساكن ولا الطرق المؤدية إليها، بل هناك طرق خاصة للأسواق التجارية مفتوحة على بعضها البعض؛ لتسهيل الاتصال من سوق إلى أخرى.

أما سر طغيان هدا النموذج الهندسي الأندلسي في البلدان المغاربية عمومًا وفي المغرب على وجه الخصوص فيرجع إلى كون الطراز المغربي الأندلسي أحد أهم أنواع العمارة في المغرب، وقد بدأ هدا الطراز مع ضم المرابطين للأندلس لدولتهم في المغرب عام 479هـ إثر انتصارهم في معركة الزلاقة، وامتد هذا الطراز العمراني، وبقي مهيمنًا على العمارة المغربية طيلة أربعة قرون.

ومن المدن المغربية التي يتجلى فيها الأثر الأندلسي بشكل واضح نجد مدينة الرباط القديمة التي لا تزال تحمل ليس فقط آثار المعمار الأندلسي، بل أيضا عادات المورسكيين (وهي تسمية أطلقت على الأندلسيين الذين أقاموا بالمغرب)، فإذا زرت (الأوداية) وهي مدينة أندلسية في قلب مدينة الرباط تُطل على المحيط الأندلسي؛ فستلاحظ أن كل الجدران مكسوة بالجير الأبيض والطلاء الأزرق، هذا الطلاء يتجدد في كل مناسبة خاصة في الأعياد الدينية، فتلبس كل المدينة حلة زاهية ولا تزال هده العادة قائمة إلى اليوم، كما أن الأغراس لا تزال خضراء في أزقة هده المدينة القديمة؛ مما يذكرنا بحدائق الأندلس التي عُرفت باهتمامها البالغ بالطبيعة، وتفننت في التجمل بالأغراس الخضراء.
بقلم/ منجي بن العبيدي