لم يكن لعمارة الإسلام أن تطأ الذروة بمنأى عن ذلك الدفق من العقيدة المسيرة لسجايا النفوس وكم الغناء العلمي النظري وكيف المنتج الحضاري التطبيقي. ومن أروع أمثلة تلك العمارة تقع اليوم خارج نطاق دياره وحدوده الجغرافية وهما قصر الحمراء في إسبانيا وتاج محل في الهند، لتشهد على مجد غابر، يدعو للكبرياء والعجب والإعجاب بما تبوأته من حظوة جلبت لتلك الديار الثراء والسخاء مما يدره عليها كم الزائرين إليها من أصقاع العالم ليشهدوا لهذه العمارة سموها وللأنامل حذقها وموهبتها وللنفوس المحركة لها صفاء مكنونها، وفي النهاية الإقرار وبدون أدنى ريب بأن لولا وجود هذه العقيدة الحنفية، لا يمكن أن تكون هذه العمارة.

يزور قصر الحمراء في غرناطة ما يفوق على الخمسين مليون سائح كل عام ويزور تاج محل في أكرا ما يقارب من الثلاثين مليون سائح. انها لمن وسلوى من السماء جاءت بها دول الإسلام الى تلك الديار، ناهيك عما يكرسه هذا الاهتمام من ديمومة وتشجيع للحرف المعمارية والفنية التي تمخضت عنها تلك المعالم لتصبح مصدر رزق ومعاشا لرهط كبير من البشر. وبالرغم من كون تاج محل بناء جنائزيا يمثل ضريح ملكة أراد زوجها الإمبراطور أن يكرم مثواها، فإنها تعتبر للكثيرين إحدى رموز الحب والوفاء الإنساني الذي عادة ما يجد في العمارة خير تفريغ وتجسيد له.

وبعيدا عن حالة الإطراء التي أسهب وأطنب بها التاريخ لسلاطين الأزمنة من الذين شيدت لهم تلك المعالم، فان من يستأهل المجد والأطراء هي تلك الأنامل التي خطتها وجسدتها وبنتها من دفق العقيدة المحركة للنفوس. وهذا يدعونا الى وقفة إكبار لهؤلاء الحرفيين الذين عملوا بكفاف العيش طامعين في رحمة المولى وحسن العاقبة عند اللقاء جزاء إتقانهم لعملهم. كل ذلك يدعونا للبحث عن أسماء هؤلاء وعن بقاياهم وورثتهم الصامدين في أزقة مدينة أكرا القديمة التي لا يدل حالها الراهن على غناء الإرث فيها، فسماتها سقيمة ومحياها بائس، وغناها يكمن في تاج محل وورثة من أنجزوه.

تاج محل أو ربما تاج العمارة الإسلامية الذي احتل سمو المنزلة وفرض باقحامه في عجائب الدنيا العتيقة السبع بالرغم من قصر عمره الذي لم يتجاوز الأربعة قرون، حتى وصل الإطراء بعمارته بأن نسب جزافا لمعماري أسطوري وبنائين أتوا من اوروبا النهضة، تماشيا مع النزعة الأحادية في تحديد كل الإبداع البشري في ما ينتجه الغرب وفي صيغة ابليسية تنطلي على المنبهرين منا، والتي تلغي على هؤلاء المتخلفين اليوم سمو ورفعة تراثهم في الماضي.

وبالرغم من تمثيل تاج محل لعمارة الهند الإسلامية فانه يختلف عن أقرب عمائرها ونعني طراز مدينة فتح بور سكري التي بناها أكبر عام 1571 والتي كرس في ثناياها، حالة من التلاقح بين عمارة الإسلام وبين الموروث الهندي القديم، مشادة بالحجر الرملي الاحمر الذي يشكل خصوصية محلية تجسدت في أكثر المعالم المشادة إبان تلك الحقبة، ولاسيما في القلاع الحمراء، بالرغم من أن الفاصل بين فتح بور سكري وتاج محل لا يتعدى نصف القرن أو بالمقياس البشري بجيلين من المعماريين. فهنا سمت روح العمارة الإسلامية العربية ولاسيما بملامحها الواردة من المدرسة العراقية الإيرانية، إبان النهضة التي حدثت خلال العهد الصفوي.

ومما يستدل على هذه السطوة للعمارة العربية في الهند هو احتكار المصطلح المعماري العربي لحرف البناء بشكل شبه مطلق، حتى تخال النفس أن تلك الثقافة القديمة والغنية لم يكن بها أي مصطلح معماري قبل ورود وهيمنة الكلمة العربية التي وردت مع هؤلاء المعماريين والفنانين.

لقد جلب شاه جيهان خيرة العمال المهرة من المغرب العربي الذين تركوا بصماتهم جلية في ثنايا الجنائن التي حاكت بها جنة العريف وجنائن الحمراء وفاس. أما من مصر فقد وردت في معالجات الرخام والهياكل البنائية وتقنية البناء، ومن العراق تجسدت في البناء والتصميم حتى لنجد اسم أحد هؤلاء العرب وقد خلدته الوثائق التي كشف عنها لاحقا، تذكر باسم البناء المعماري واجد البغدادي أشرف على بناء صرح تاج محل. ومن الشام جاءت صناعات الأثاث والقناديل التي تضيء حجراته، فها هي الثريا الذهبية التي سمت فوق الضريح وها هو السرداب يضاء بكرات ذهبية رصعت بمرايا محدبة جيء بها من حلب، تعكس أضواء القناديل على القبر في أنساق متلألئة فتومض وتخفق كلما تحرك اللهب الدقيق في القناديل. وهذه المرايا الحلبية كانت ترصع بها سقوف بعض حجرات النوم في قلعة أكرا الحمراء، ويكفي لايقاد شمعة أو اثنتين في الحجرة لتجعل انعكاساتها على منظومة المرايا العربية المثبتة على أشكال مقرنصة عالم من النور والسحر لنهار فردوسي عربي. وهذا ما نجد بعض تجسيداته اليوم في بعض الايوانات المقرنصة في مشاهد العتبات المقدسة في العراق.

وفي هذا الموقع السحري امتزجت الحقيقة بالأسطورة بحيث تناقلت الأجيال من الخلف الى السلف حكايا عن قصر في الجنة كان قد رآه شاه جيهان في أحد مناماته، فعقد العزم على تجسيده على الأرض، واقتضاه أن يطلب من جمهرة المعماريين الذين جلبهم من أصقاع الدنيا أن يحققوا له حلمه الفردوسي، ويجسدوه حقيقة منقولة من الخلد على الأرض. وفعلا كان من ضمن هؤلاء الأساطين بعض معماريي عصر النهضة الطليان إبان غلواء طراز الباروك في أوروبا. وقد أدلى كل منهم دلوه وبذل قصارى جهده وزبدة خبرته فلم يرق ذلك للإمبراطور الذي كان يجيبهم دائما بهز الرأس وبأن ليس هذا الذي رآه في منامه. وخلال برهة ظهر صبي بين الحضور عمره أربعة عشر عاما يقف أواخر صف العارضين، ويدعو الحاشية لإلقاء نظرة على عمله، فلم يعتبر، وزجر واستهين بقدراته، فنحاهم الإمبراطور جانبا، وطلب منهم إعطاءه الفرصة. وقد كانت المفاجأة مهولة على مسامعهم عندما صرخ بهم مولى نعمتهم بان هذا البناء هو نفسه الذي رآه في منامه، وهكذا كان فسارت الخطى حثيثة لمدة اثني وعشرين عاما من العمل الدؤوب والبذخ المفرط، ولكن في النهاية كان تاج محل. وعلى طريقة الأساطير الشرقية المسهبة في الروحانيات فأن هذا الصبي اختفى على حين غرة بعد الأخذ بمقترحه.

لقد أراد السلطان شاه جيهان بن جاهانكير بن أكبر (1592 ـ 1666) أن يقلد جده أكبر الفاتح والباني العظيم، وأن يطأ الخلود ويبني لنفسه أهرامات إسلامية، فجعله ذلك القصد مضطرا أن يبعث الرسل الى السلاطين والولاة، وفي طلب رؤساء أصناف البنائين في مدن الشرق الإسلامي، فجمع منهم الزبدة وترك لهم العنان طليقا يحومون في فضاء الإبداع، ووفر بين أيدهم كل وسائل البذخ والغناء والاختيال، في مرام بجعل تاج محل محجا وذروة معمارية تفوق الوصف. فقد جلب اليها أساطين فارس الذين ندر غيرهم ممن يفقه في ترصيع الرخام بقطع دقيقة من الحجر الكريم، كما يكفت الحجر في الذهب والفضة. وقد تذكر لنا الأساطير الشعبية في الهند بأن الإمبراطور لم يسمح لهم بمغادرة الهند بعد ذلك وجبرهم المكوث فيها مقابل توفير كل ما يحتاجونه من معاش الدنيا على أن لا يصنعوا لغيره ما يحاكيه. ولم يكن اختيار الأحجار الكريمة بسبب غلاء ثمنها أو جمالها الأخاذ وصفاء أوانها في مهرجان المعالجات اللونية فقط، بقدر ما تداخل مع الروحانيات والتأثيرات التي يعتقد بتركها على متداوليها والذي مازالت الأعراف الاجتماعية في الشرق تؤمن إيمانا عميقا بذلك وعقدت لها الندوات العلمية للتحقق من صحتها.

وخلال رحلة البحث عن أحفاد هؤلاء، التقت «الشرق الأوسط» أحدهم ويدعى محمد أقبال حق ويبلغ أواسط الثلاثينات من العمر، مازال يعمل في الورشة التي ورثها عن أجداده الذين تناقلوا الحرفة حتى وصلت اليه، وبالرغم من إدماغ الملامح الأولى مع السحنة الهندية فأنه ما زال يحتفظ بشجرة ذلك الانحدار من مدينة تبريز الإيرانية.

ولقد شرح كيف نقلت الحرفة إليه بعد عشرة أجيال ونيف وعرض مواهبه وطريقته الموروثة التي بدأها بطلاء صفائح الرخام الأبيض الناصع بصبغة طينية الغرض منها تبيان خطوط الأشكال عليها، والتي تزال بعد الفراغ من العمل. ويلي الطلاء نقر المواضع المراد تطعيمها بأزميل خاص يحقق من خلال حذاقة الصانع، كل الخطوط والأشكال المراد نقرها. وتسمو الحرفية بعد ذلك الى الذروة عندما يتم قطع الاحجار الكريمة على قدر الفراغات المنقورة ويتم لصقها بمادة صمغية يصنعها الحرفيون، متكونة من خليط يتكون من سبع مواد طبيعية هي: طحين الرخام ونورة باريس والسخام المقتبس من حرق القناديل وعصير قصب السكر ليعطيه اللزوجة وحبوب الرز المطحونة مع خليط بعض النباتات المحلية الطبيعية وبعض المواد الكيماوية المثبتة. إن هذه المادة الصمغية تجعل من القطع الفسيفسائية أو منحوتات الاحجار الكريمة ثابتة راسخة على أمد الزمان.

وفي رحلة الإبداع هذه يستعمل الحرفي مهرجانا من الألوان المتجانسة المتناغمة التي جسد كل منها نوعا معينا من الحجر الكريم. وبالرغم من غلبة الألوان الداكنة التي تشدد في التناقض البصري بين تلك الأحجار، مع الخلفية البيضاء الناصعة للرخام، فان للألوان الفاتحة نصيبا كذلك. فنجد الازرق اللازوردي أو النيلي هو المحبب لما ارتبط برمزيته للماء جوهر المخلوقات والسماء المرجوة دائما فتداخل مع الروحانيات والرمزية التي أختلفت بها ثقافات الدنيا حتى داخل الثقافات الإسلامية نفسها. حيث نجد أن هذا النوع من الحجر يأتي من جزر سيشل وكذلك أفغانستان، ونفس الشيء ينطبق على الفيروزي الذي مصدره حجر الفيروز الذي يرد من تركيا واقترن اسمه بها (تركواز) وهو الشائع ويوجد نوعان أحدهما فاتح ويرد من إيران والآخر غامق ويردهم من التيبت في الصين. أما الأخضر فيمثله الحجر الملكي (ملكايت) ويردهم من زمبابوي واللون الصدفي يحققه نوع من القواقع التي تردهم من جزر باوا سيشيل والبني يحققه حجر (جاسبر) الموجود في الهند، والأحمر يحققه المرجان القادم من البحر الأحمر ولاسيما من مصر والذي اكتسب اسمه منه بسبب وفرته فيه. أما البرتقالي فهو العقيق (كورنيليان) ويجلب من الهند وبالتحديد من منطقة مهاراشتار في وسط البلاد، ومن خواص هذا الحجر انه صعب القطع لذا قل وجوده في منظومة الألوان الزخرفية ومن خواصه انه يحتفظ بالضوء بعد زوال تأثيره المباشر عليه لبرهة من الزمن لصفاته الكهربائية. والرخام الذي أشيد به تاج محل هو من ارقى أنواع الرخام ويطلق عليه (ماكرانا) وهو في حقيقته اسم قرية هندية تقع في شمال ولاية راجاستان بقرب الحدود الباكستانية على بعد 250 كلم من مدينة جايبور عاصمة ملوك الاقليم الذين يطلق عليهم الانجليز (المهراجات) والتي تعني حرفيا (ملوك راجاستان) والذين استعملوا هذا النوع من الرخام في قصورهم الأسطورية. وهذا النوع من الرخام له صفات الدوام بالرغم من عوادي الزمن وتأثير عوامل الجو والمواد الكيماوية. ونجزم بأن الهيئة التي تبدو عليها حيطان تاج محل وهذه الحلة الجميلة التي تبدو عليها، هي دليل على طريقة حاذقة كان قد استعملها المصريون من القدم، وذلك باختيار الحجر من المقلع الجبلي بما يحاكي الجهة التي تقع بها واجهة البناء التي يراد معالجتها أو تغطيتها لتحاشي عدم تجانس هذا الحجر مع الاتجاه الجديد الذي آل إليه موقعه في البناء مما يسبب له متاعب في كنه تكوينة الطبيعية والفته مع سطوع الشمس ونسبة الرطوبة وهبوب الريح مما يجعله يتآكل بسرعة، ويمكن أن تكون هذه الطريقة قد نقلها المصريون الذين كانوا قد أشادوا بموجبها واجهات مدرسة السلطان حسن عام 1356 في القاهرة.

وهكذا يبقى للعمارة والفنون العربية والإسلامية أن تعتز وتفخر بهذا المعلم الذي كان بوتقة الذروة التي اجتمعت في ثناياها خبرات البناء للشعوب الإسلامية مما يمكن أن يكون بوتقة اجتمع بها كل الإبداع البشري خلال كل الأزمنة

د. علي ثويني