تمثل فكرة المقارنة والحوار بين مراحل مختلفة من تاريخ الحضارة ذاتها أيا كانت، أو بين الحضارات المختلفة ركيزة مهمة في تطور الفكر الفلسفي المعماري والذي يعمل على تبسيط المعادلة إلى عواملها الأولية وتفكيك الروابط بين عناصرها من اجل إدراك العلاقات وتقعيد القواعد وصولا من المقدمات إلى النتائج المنطقية مع الدحض والنفي.وهي أبسط قواعد التفكير المنهجي المنظم الذي يرفض الأخذ بالمسلمات المتكررة كحقائق اعتمادا على (تكرارها) كعامل للتسليم بصحتها كما قدمها لنا الفيلسوف كارل بوبر.

ومن هنا يعمد هذا المقال المقارنة بين عنصرين أساسيين في العمارة ويشكلان عماد أي نسيج حضري أو حيز فراغي معماري وهما الحيز الفراغي (الموجب) وهو الكتلة المعمارية المكونة من الحوائط والفواصل الإنشائية والتي تفصل الداخل عن الخارج وتميز العام عن الخاص. أما الثانية فهي الحيز الفراغي (السالب) وهي ببساطة عكس الأولى أو هي الشوارع والممرات والأزقة وطرق الحركة إما داخل النسيج الحضري إن كان المعني بالتحليل والدراسة هو النسيج الحضري، أو هو الممرات والموزعات الداخلية إن كان المعني بالدراسة المبنى ذاته.

وهذا المقال معني بطرح وتتبع فرضية مفادها الاختلاف الجوهري في العلاقة بين السالب والموجب بين العمارة العربية التقليدية من ناحية وبين العمارة الغربية المعاصرة من ناحية أخرى.
فما هو هذا الاختلاف؟

تبين النظرة السطحية السريعة لنسيجين حضريين لمدينتين إحداهما عربية تقليدية، والأخرى غربية وجود فروقات ملحوظة أساسية في طبيعة تشكيل هذين النسيجين، إذ فيما يبدو النسيج العمراني الحضري في أية مدينة عربية تقليدية وكأنه عفوي التخطيط ذو شبكة متعرجة من الشوارع والطرقات المتدرجة من المتسع إلى الأضيق انتهاء بالطرقات الخاصة غير النافذة.

وفي المقابل نجد أن المدينة الغربية تتبع نمطا تخطيطيا مختلفا، حيث تبدو الشوارع وكأنها أساسية في التخطيط وتفرض نفسها على حساب المباني والكتل المحيطة، إضافة إلى أنها أحيانا كثيرة ما تتبع التقسيمات الشطرنجية والخطوط المستقيمة التي تنطلق من الميادين والساحات الكبيرة وتجري بكافة الاتجاهات والزوايا ولكن بخطوط مستقيمة.
وهذا الاختلاف الرئيسي في التنظيم الكلي الهيكلي للمدينتين له انعكاسات ومفاهيم مهمة في آلية وطبيعة إدراك الحيز الفراغي أو علاقته بالمحيط من فراغات الحركة كالشوارع والممرات والطرقات، بالإضافة إلى آلية تشكيل النسيج العمراني الحضري ككل بين المدينتين.

ففي حالة المدينة العربية التقليدية فقد وصفت الدراسات التي بحثت موضوع التشكيل العمراني والآليات المختلفة التي تشكلت بها المدينة (مرحلية) بنائية نمت بها المدينة مع وجود بعض الاستثناءات كما في بغداد المنصور المدورة أو غيرها، لا (جاهزية) مسبقة في البناء والتخطيط كما هو الحال في معظم المدن الغربية. وجهدت الدراسات المعنية كدراسة بسيم حكيم «المدينة العربية الإسلامية» وغيره، بالإضافة إلى تقديم نماذج من المدن العربية التقليدية كتونس وغيرها إلى تفكيك عناصر المدينة العربية التقليدية ومن ثم البحث في الآلية التي تشكلت بها عناصرها المختلفة.

وبالمقابل نجد دراسات مثل ليون كرير والتي تبحث في المدينة الغربية وعناصرها التي تتشكل منها، وبالرغم من وجود تشابه في العناصر المختلفة التي تشكل المدينتين من مرافق دينية وسياسية وثقافية وتجارية وسكنية، إلا أن الآليتين مختلفتان وذلك تبعا لتصور العلاقة بين الموجب والسالب وهيمنة كل منهما في النسيج الحضري للمدينتين.

بداية نجد من المفيد أن نعيد تعريف أو تصنيف مجموعتين من الأحيزة الفراغية على مستوى المبنى الواحد مثلا، وهما: أولا الأحيزة الفراغية الرئيسية وذلك مثل الغرف الرئيسة والقاعات والأفنية وغيرها، وثانيا الأحيزة الفراغية الثانوية مثل الممرات والأدراج والمرافق الخدمية وغيرها. وتصميم وتشكيل أي مبنى إنما هو نتيجة التفاعل ما بين هاتين المجموعتين من الأحيزة الفراغية. والاختلاف الجوهري بين الثقافات المختلفة أو بين التصميم في العمارة العربية التقليدية وبين العمارة الغربية إنما يكمن في طبيعة التوازن بين سيطرة إحدى المجموعتين على الأخرى والأهمية التي تكتسبها ضمن التصميم.

ففي المدينة العربية التقليدية بشكل عام وفي التصميم المعماري بشكل مصغر يحتل الحيز الفراغي (السالب) أهمية اقل من مثيله في العمارة الغربية بالإضافة إلى تميزه ووضوحه عن مثيله في العمارة الغربية، رغم انه لا يكتسب أهمية من حيث التشكيل الهندسي وغالبا ما ينتج لاستيعاب التغيرات المفاجئة في الاتجاه أو الحركة والتي تحفل بها العمارة العربية التقليدية.

ونجد العكس تماما في المفهوم الغربي للفراغ السالب حيث يكتسب أهمية موازية للفراغ الموجب من حيث التشكيل الهندسي وأيضا من ناحية السيطرة والموقعية في المبنى أو المدينة، وكثيرا ما نجد المباني في العمارة الغربية قد تشكلت تبعا للمرات والطرق بطريقة أحيانا ما تكون (بطريقة القص كمربعات الجبنة)، أو في أحيان أخرى نجد الأحيزة الفراغية الثانوية حسب تصنيفنا أعلاه وقد احتلت مواقع وأشكال هندسية متميزة ومهمة أحيانا وبارزة للعيان أكثر من الأحيزة الفراغية الرئيسة، فكثيرا ما تحفل العمارة الغربية بالمصاعد التي تتصدر المحاور الرئيسة للمبنى وتصمم بطريقة ظاهرة أو (بانورامية)، في حين نجد القاعات الرئيسية والمدرجات وقد أخفيت تحت الأرض أو احتلت مواقعها علي محاور غير رئيسية أو ثانوية.

وهذه الظاهرة قلما نجدها أو ربما منعدمة في المفهوم التصميمي في العمارة التقليدية إذ أن تحليل أي مبنى يبين علاقة متوازنة بين المجموعتين الفراغيتين مع هيمنة الفراغات الرئيسية في التصميم محورا وشكلا، في حين تستعمل مجموعة الأحيزة الفراغية الثانوية كإضافات وحشوات بين الأولى وتمتص أية نقلات في سبيل المحافظة على (سيادة) مجموعة الفراغات الأساسية للمبنى أو للمدينة بشكل عام.

هذا ابرز ما يمكن لحظه من فروقات بين المفهومين العربي والغربي للفراغ الموجب والسالب من ناحية تشكيلية، ولا يعني ذلك أن الفروقات مقتصرة على هذه النواحي التشكيلية، إذ لا بد من انعكاسات اجتماعية وثقافية هي ناتج ومؤثرات في نفس الوقت لا بد من بحثها وهي موضوع دراسة أخرى ومقال آخر.