انسحبت تسمية "عمارة حسن فتحي" مجازًا على كل تجربة تحاول استكمال واستلهام تجارب معمارية لإحياء أشكال محلية وشعبية وبيئية من العمارة. وإن كان علينا أن نؤكد أن "حسن فتحي" لم يقدم عمارة جديدة بقدر ما قدم منهجية لإحياء العمارة الشعبية المحلية. ولكن الأفكار والتطبيقات التي قدمها حسن فتحي في مجال العمارة كان لها مسمى ربما يكون هو الأشهر فيما عرفت به، وهو "عمارة الفقراء"، وهو مسمى يعكس النبالة في أفكار وغايات مشروعات حسن فتحي في العمارة؛ ليس لكونها عمارة تُبنى للفقراء باعتبارهم مساكين، ومن ثم كما يريد بعض المتحذلقين أن يصحح الاسم ويقول إنها عمارة للفقراء وليس عمارة الفقراء، ونحن نقول: بل هي عمارة الفقراء؛ من حيث إنها كانت تحاول أن ترد للفقراء المصريين عمارتهم التي أنتجوها وأبدعوها من خلال فكرهم ووجدانهم وبنوها بسواعدهم، وهي التي بقت آثارها في الشواهد المعمارية التراثية حتى الآن.. هذه الإبداعات المعمارية التي كانت دائمًا تُسلب منهم لتظهر في قصور السلاطين والأمراء والأغنياء.

هنا نحاول النظر في حال عمارة "حسن فتحي" وما بعد "حسن فتحي"؛ بمعنى: هل استطاعت هذه العمارة أن يكون لها أنصار ومريدون من المعماريين المصريين يتمسكون بها، ويحاولون تطويرها وتطبيقها في الواقع، وقبل ذلك كيف ارتبطوا بها وهي عمارة كانت تُعد من المحرمات في أقسام العمارة بالجامعات المصرية. وإلى أي حد كان إصرارهم على تطبيق هذه العمارة في الواقع الذي يسيطر عليه هجين من العمارة الأوروبية التي تعتمد في خاماتها وآليات بنائها على الخامات الصناعية والآلات الضخمة. وقد حرصنا أن تكون عينة المعماريين الذين التقينا بهم شاملة لأجيال مختلفة حتى تكون شهادتهم إفصاحًا عن تصور كل جيل منهم لهذه العمارة، وكيف ارتبط بها وتعامل معها.

الحجر الغشيم والطوب اللبن
المهندس إكرام نصحي – هندسة مدنية (1975) جامعة يورث موث بإنجلترا - يقول: ارتبطت بالعمارة الشعبية المحلية وعمارة الطوب اللَّبِن عن طريق الرائد المعماري "رمسيس ويصا واصف" الذي يُعد صنو حسن فتحي في الدعوة إلى إحياء هذه العمارة، وتنفيذ تطبيقات فعلية لها في الواقع. فمركز "رمسيس ويصا واصف للفنون" بالحرانية - الذي يخرج منه سجاد الحرانية المشهور- مبني على نسق عمارة الطوب اللبن المسقفة بالقبب والأقبية، وقد حصل هذا المركز على جائزة الأغاخان للعمارة سنة "85"، وهي تعد أكبر الجوائز المعمارية في العالم.. في هذا المركز أتيح لي تعلم تكنيكيات البناء لهذه العمارة عن طريق رمسيس ويصا واصف والبنائيين النوبيين الذين وقع على عاتقهم بناء أغلب مباني مركز رمسيس ويصا واصف، وقد بدأت ممارستي للبناء بهذه العمارة في مركز رمسيس ويصا واصف، ثم قمت بتصميم وبناء بعض البيوت والمباني بقرية الحرانية لبعض الزبائن الذين راقهم هذا النمط من البناء.

وقد كان هناك بيت في المعادي قمت ببنائه، مستوحيًا الكثير من أفكار هذه العمارة، وإن كانت خامة البناء فيه من الحجر الغشيم، ولم يمنعني من بنائه بالطوب اللبن سوى خوفي من أن المجلس المحلي للمدينة يقف ضد البناء بخامة الطين؛ حيث يرون أن مادة الطين مادة غير حضارية، ولا يصح البناء بها في الحضر؟! وهي إجراءات كانت وما زالت من المعوقات لانتشار العمارة الشعبية المحلية في مصر، وقمت ببناء بعض المباني والبيوت في مركز التجارب بصحراء مدينة السادات، التابع لمركز تنمية الصحراء. وقد استخدمت في هذه المباني الطفلة كمادة للبناء والقبب والأقبية للتسقيف، ومن المميزات التي حققتها في هذه المباني انخفاض تكلفتها الاقتصادية عن نظيرتها الخرسانية، وتحقيق تهيئة مناخية بها من دون أجهزة تكييف أو تدفئة، وهذا كان عن طريق الحوائط المزدوجة التي تخفض كثيرًا من الحرارة داخل البيت والأفنية الداخلية، وكان استخدام الحوائط الحاملة في البناء بدلاً من الهياكل الخرسانية عنصرًا هامًا في تخفيض التكلفة الكلية للمباني.

الدهان.. الجونة وتوشكى!!
رامي الدهان – هندسة القاهرة (78): يعد المعماري "رامي الدهان" من أكثر الأسماء ترددًا بين المعماريين أنفسهم؛ ليس من كونه تلميذًا لحسن فتحي فقط، ولكن لسعيه لتطبيق هذه العمارة في الواقع، وحول مدى وجود فكر ومنهجية حسن فتحي في الجامعة يقول: في الوقت الذي كنت فيه في الجامعة كان حسن فتحي مرفوضًا في الجامعة وإن كان معروفًا، ويمكن القول بأن نسبة مؤيديه بين الطلبة كانت لا تتعدى "2%"، وكان له مؤيدون بنسبة ضئيلة بين الأساتذة، وتعبير "عمارة حسن فتحي" تعبير غير دقيق؛ لأن حسن فتحي لم يخترع عمارة إنما هو أحيا عمارة شعبية محلية، وهي تتميز بخصوصيتها المصرحة؛ لكونها شديدة التشبع بالتراث الحضاري المصري، وقد حوصرت هذه العمارة بعد تجربة القرنة؛ نظرًا لأن البعض حاول تشويهها بالقول بأن الشعب نفر منها ورفضها. ولم يكن هناك مستثمر يمكن أن يوجه هذا النوع من العمارة إلى الفقراء سوى الحكومة، والحكومة لم تكن تطرح مشروعات الإسكان في مسابقات؛ بل كانت تنفذها بطريقة نمطية، وهو ما عرف بالمساكن الشعبية.

غير أنه منذ بداية الثمانينيات بدأت تنتشر هذه العمارة؛ وهذا لظهور زبون خاص لها هو مستثمر القرى السياحية. وعن أهم المشروعات التي قام بتنفيذها تبعًا لمنهجية حسن فتحي، يقول المعماري رامي الدهان: قرية الجونة السياحية بالغردقة على ساحل البحر الأحمر تُعد أهم المشروعات التي قمت بتصميمها وبنائها كنموذج لامتداد عمارة حسن فتحي. وكانت كل وحداتها مسقفة بالقبب والأقبية، وكانت الخامة المستخدمة في البناء الطوب الأحمر العادي، أما عمال البناء فكانوا من النوبيين الذين تم استجلابهم من النوبة لهذا الغرض.

أما بالنسبة للمشروعات الكبيرة فقد اشتركنا مؤخرًا في مسابقة وزارة التعمير التي أجرتها الوزارة لتخطيط وبناء مدينة "توشكى"، وقد قدمنا مشروعًا يعطي صورة متكاملة لمنهجية البناء المتوافق مع البيئة. فقد حددنا أن الخامة التي استخدموها في البناء هي خامة "الطفلة"، وهي من خامات البيئة المحلية، وقد صممنا الوحدات السكنية بحيث يتم فيها تهيئة مناخية عن طريق توجيه البيت والحوائط السميكة، ومن كونها أيضًا من مواد غير صناعية كانت ستقلل من استخدام الطاقة الموجهة إلى التكييف إلى 45%، أما من ناحية تخطيط المدينة فقد كان تصميمنا للبيوت يحرص على تجاورها لتحقق ظلاً لبعضها البعض، وهو أيضًا ما كان سيقلل من تكلفة مد الخدمات مثل تقليل أطوال الأسلاك والمواسير.

يقول المهندس رامي الدهان: وعلى الرغم من مجهوداتنا وتحمسنا لهذه التجربة فإنني اعتبرتها "أكبر مقلب في حياتي". فبعد كل هذا المجهود حجبت الوزارة الجائزة الأولى والثانية، وفزنا بالمركز الثالث، وهي حيلة كي تهرب الوزارة من تنفيذ المشروع.

جمعية الأرض.. عمارة البيئة
وائل صبري – هندسة القاهرة (90): هو أحد مجموعة من المعماريين الشبان الذين قاموا منذ سنوات قليلة بتأسيس "الجمعية المصرية لعمارة الأرض"، وهي جمعية أهلية تؤمن بأهمية التقنيات المتوافقة في العمارة، وتنمية المجتمعات المصرية، وتسعى الجمعية لنشر أفكارها، وعمل الأبحاث النظرية والعملية على التقنيات المتوافقة مع البيئة في البناء والعمران في البيئة المصرية، وقد كانت جمعية الأرض هي الصيغة الممكنة لتجميع هؤلاء المهندسين ليعملوا كفريق في بلورة أفكار جدية وأصيلة حول العمارة المتوافقة مع البيئة، ويقاوموا من خلالها شروط السوق التي لا ترضي إلا أن يخضع الكل لشروطها، وتأتي أهمية شهادة المعماري "وائل صبري" وزميله في الجمعية المعماري "كريم إبراهيم" من أنهما يفضحان من خلال شهادتهما حالة اليتم والتيه التي يعيشها طالب العمارة في جامعاتنا من كون لا أحد ولا علامة ترشده في مجمل العملية التعليمية إذا حاول البحث عن عمارة ترتبط بالاحتياجات الفعلية للناس وبالبيئة والثقافة المصرية من جهة أخرى.

يقول وائل صبري: لم تكن هناك أي علاقة بين العلوم المعمارية التي ندرسها والبيئة المحلية التي نحيا فيها واحتياجاتنا الفعلية وإمكاناتنا الاقتصادية، ناهيك عن ثقافتنا وتراثنا المعماري؛ بل إن مجمل العملية التعليمية في الجامعة كان يسودها جو من الغموض وعدم الفهم يدعمه جو من الترهيب يكبت كل محاولة للفهم أو حتى السؤال أو التساؤل. على سبيل المثال بقيت طوال سنواتي في الكلية لا أفهم التأشيرات التي يضعها الأساتذة على مشروعاتي أو مشروعات زملائي، ولا يمكن للطالب قراءتها أو فهم ماذا تعني رغم أهميتها له. وأرى أن ذلك كان مقصودًا لزيادة الغموض وإرهاب الطالب.

ويضيف: أما ارتباطي بعمارة البيئة وتجربة حسن فتحي فكان بجهد ذاتي تقريبًا، وقد شدني فيها منهجيتها القائمة على ربط العمارة والبناء بالبيئة والثقافة المصرية، ومن هنا عرفت أن هذه العمارة هي التي كنت أفتقدها وأبحث عنها، وهي ما يجب الارتباط به والعطاء فيه. بعد التخرج ارتبطت ببعض المكاتب التي كنا نحاول فيها إقناع بعض العملاء بالأخذ ببعض ملامح هذه العمارة، وهي تجارب محدودة للغاية كان الغرض منها أن نتعلم مع التجربة، ثم عملت بعد ذلك في مكتب د. "عبد الحليم إبراهيم" الذي أقام حديقة السيدة زينب للأطفال، وفيها إحياء للتراث المعماري الإسلامي، ومن خلال المكتب اشتركت في عدة مشروعات تحاول أن تحيي التراث المعماري الإسلامي مثل مشروع تحويل سوق روض الفرج بعد أن أُخلي إلى سوق يتم فيها إحياء الحرف التقليدية الشعبية. ولكن هذا المشروع لم ينفذ، ثم حاولنا في مشروع آخر، وهو إقامة حي سكني حرفي خارج باب النصر في منطقة الجمالية. ولكن بعد تنفيذ التصميمات المعمارية وتقديمها لاقى هذا المشروع عدم التنفيذ كما لاقاه سلفه.

ومؤخرًا شاركنا أنا وزملائي في جمعية الأرض.. شاركنا باسم الجمعية في مسابقة وزارة التعمير لبناء وتخطيط مدينة "توشكى"، وقد فاز مشروعنا الذي قدمناه بالجائزة الثالثة مناصفة مع مكتب الدهان فريد الشافعي للعمارة. ومع ذلك لم ينفذ المشروع، ويبدو أن الحكومة ستمضي في بناء المدينة بالشكل النمطي المعتاد ببناء مساكن نمطية ضيقة المساحة وسيئة التخطيط وقاصرة في خاماتها على الخرسانة المسلحة.


العمارة.. حاجة اجتماعية وثقافية
كريم إبراهيم – هندسة القاهرة (95): يقول: إن غياب عمارة معاصرة تعبر عن احتياجات السكان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية راجع أساسًا لعدم الاتصال الفعلي والمباشر بين المعماري والعميل؛ فالمعماريون في مصر لا يقدمون خدماتهم سوى إلى (5%-10%) من سكان مصر، أما باقي الناس فيبنون بإمكاناتهم وذوقهم، وبطرق المقاولين الصغار في السوق. وعندما يتم الربط بين العميل والمعماري فغالبًا ما يتم ذلك بأمر إجباري من الأجهزة المحلية في المكان، ولكن في هذه الحالة التي كان يتم فيها الربط بين العميل ومهندس الحي لا يكون لصالح الناس أو لبناء مساكن تناسبهم بقدر ما يكون تعميقًا لطرق البناء النمطية الشائهة الخرسانية الجاهزة التي يفرضها الحي على الناس، وهذا في الأساس لجمع مزيد من الأموال من الناس لخزائن الحكومة عن طريق الرسوم التي تفرضها على الناس مقابل تقديم خدمات معمارية لهم أو تصريحات البناء.

ويضيف المعماري كريم إبراهيم: إن العملية التعليمية لطالب العمارة في الجامعات المصرية لا تحتوي على أي احتكاك حقيقي بمشكلات العمارة في الواقع؛ مما يجعل المهندس بعد التخرج "مهزوزا" في مواجهة العملاء، وحتى في مواجهة عناصر العملية المعمارية بمجملها في الواقع؛ فهو لا يملك إلا معلومات نظرية يثبت الواقع خطأها الفادح باستمرار. أما من يحاول من المعماريين أن تكون أفكاره وتوجهاته مع عمارة تتسق مع احتياجات المجتمع وخامات البيئة فعليه أن يكون ذلك عن طريق تجربته وجهده الخاص، وهو ما نحاول أن نفعله حاليًا من خلال الجمعية المصرية للأرض. وعن المشروعات التي اشترك في تصميمها آخذًا بمنهجية العمارة المتوافقة مع البيئة كان مشروع مدرسة بالغردقة، ويستدرك: ولكن هذا المشروع لم ينفذ أيضًا؛ لأن هيئة المباني التعليمية أشهرت في وجوهنا أن لديها نموذجا جاهزا تقوم بتنفيذه في كل موقع بغض النظر عن أي اعتبار آخر.

عمارة الفقراء.. فلكلور سياحي
وحول رأي هؤلاء المعماريين الشبان في العمارة والمباني التي تبنى بالقبب والأقبية في القرى السياحية، ويقدمها معماريوها على أنها إحياء للعمارة المحلية وامتداد لعمارة حسن فتحي، يقولون: إن الموتلات المسقفة بالقبب والأقبية في القرى السياحية، التي تدعي أنها امتداد لعمارة حسن فتحي هي عمارة مُدعاة وزائفة؛ لأنها تفرغ أفكار عمارة البيئة من محتواها، وتبقى فقط على الشكل الفلكلوري. ويمكن أن نضرب مثالا على ذلك بقرية "الجونة" السياحية بالغردقة التي بناها رامي الدهان مع أنه يُعد من أشهر تلاميذ حسن فتحي، مع ذلك كان عمله في هذه القرية ابتذالاً لهذه العمارة، وابتذالاً للحرف التقليدية في هذه العمارة.
فأسلوب حسن فتحي كان ذا منهجية تؤكد على التوافق بين العمارة والبيئة، وهذا عكس ما حدث في قرية الجونة؛ فعمارة القبب والأقبية التي بنيت بها ذات المرجعية النوبية ليست لها مرجعية معمارية في التراث المحلي لهذه المنطقة الصحراوية الساحلية، ومع ذلك قاموا باستخدامها هنا لتقدم نمطا معماريا ريفيا فلكلوريا، يمكن أن يثير إعجاب السائح؛ فبدلاً من أن تكون هذه العمارة سبيلاً لتنمية القوى البشرية عن طريق تعليم الناس حرفة بناء هذه العمارة تم استجلاب بنائيين نوبيين من خارج المنطقة بأجور مرتفعة لإنجاز العمل بسرعة. هذا الشكل لوجود عمارة حسن فتحي لا يُعد تحقيقًا بقدر ما يكون ابتذالاً لها؛ فلم تدرس البيئة الصحراوية الساحلية وما يمكن أن يناسبها من طرز محلية للعمارة تكون متحققة فيها بالفعل.

في سؤالنا لهم: لماذا يقدم بعض تلاميذ حسن فتحي على مثل هذه الأعمال التي تفرغ قيمة عملهم؟ يقول المهندس كريم إبراهيم: ربما لأنهم قضوا سنوات طويلة مع حسن فتحي يعملون ويدرسون هذا الطراز من العمارة دون أن يعود عليهم بأي عائد، وحينما واتتهم الفرصة كان لديهم استعداد لعمل أي شيء لتنفيذ ما تعلموه حتى ولو كان فيه ابتذال لمحتواه؛ ربما ليعوضوا ما أنفقوه من جهد ووقت في سوق لا تسمح لهم بتطبيق ما تعلموه إلا وفقًا لشروطه.

بقلم/ محمد عبد الحميد